وجدتك في حانة قبل طلوع الفجر بلحظات. كنتَ ضالتي منذ سنين، و مع ذلك لم أشعر بأي ضياع مع مرورها.. و لكن، وجدتك في الوقت المناسب. كنّا بعيدين عن بيوتنا آلاف الأميال. تركتَ أهلك في بلنسية، و أنا تركت أهلي في جنوب لبنان. بالرغم من غربتي و غربتك، وجدتك متربعاً على كنبة عاتية في حانة لاتينية الملامح، تنتظرني كمنزل ينتظر أهله كل مساء، و لكني إعتدت ألّا أجعل من الناس منازل. و بالرغم من ذلك، لم أتمنع عن الإقتراب منك و التمعن في كلّ ما حلّ بك من تغير. شعرك مموج طويل، و عيناك لم يخفِ تحرّقهما الزمن. و لكنّك أوعى – إن صحّ التعبير – لما يدور حولك. لم تعد تحدّثني عن ضجّة المقاهي على ضفاف نهر دويرو أو عن أغاني كارلوس مونتويا التي تدفع السائح إلى رقص الفلامينكو دون سابق معرفة. بل تحدّثني عن إسبانيا الفقيرة، و عن شوارع أندلسيا المليئة بالمشردين، و عن وقوع رفاقك موتى دفاعا عن آخر شبر في العاصمة. و أنا أقصّ عليك حالتي قبل الهرب، كيف تحجّجت بطلب العلم كي آتي الى القارة الجديدة، و كيف ودعت أهلي دون أن أدرك انه الوداع الأخير قبل أن تلتهمهم آلة الحرب، او بالأحرى، سيوفها، فالحرب في يومنا هذا، يا عزيزي، تلبّست مظاهر التخلّف.
تجادلني، “هل الحرب يمكن ان تكون حضارية في أشكالها الأخرى؟”
ربما، لا أدري. كلا. و كيف لها أن تكون حضارية المنهج اذا النتيجة هي نفسها؟
أحتسي جعتي على مهل، فلا شيء يزاحمني و لا مشاريع لي اليوم او غد او بعد سنة. سأرفقك معي في رحلتي شمالا. سنسرق حصانا، أو ربما درّاجة نارية إذا حالفنا الحظ، و سنمضي نحو الشمال، نتريّث قليلا كلما رأينا منزلا منزوي، فنقدم خدماتنا مقابل القليل من المال، لا لنجمع ثروة، بل لنحصي ثمن زيارة إلى الماضي. أريد أن أجد أخي الذي فقدته منذ رحلت فأخبره أن قدوته في الحياة أكذوبة و لا يوجد عدالة سماوية، و أريد أن أدخل غرفتي مرة أخرى و أمزّق الصور المدروزة على زوايا مرايتي. كان لي غرفتي الخاصة، و لم أنم على سرير منذ سنين. أنت تريد أن تعود لتودع رفيق الطفولة قبل ان يُنسف إلى أشلاء. أنت تريد أن ترى أختك الصغيرة لآخر مرة، و أن تسهر يوم جمعة على شرفة منزل صديقتك السابقة فتشرب الكثير و تجعل من السماء مادة للوحة زيتية في عقلك فقط. كلانا يعلم أن العودة إلى المكان لا تعني العودة في الزمن، و كلانا يتغاضى تلك الحقيقة.
“إن جاؤوا كلّهم على ظهر سفينة، سالمين، كي نبدأ حياة جديدة في أرض خصبة، نأكل مما نزرع و نشرب مما تقدمه الطبيعة، أستكوني سعيدة؟”
“ربما.”
“هناك إحتمال ألا يعجبك الإستقرار الذي نحلم به و نشتاق إليه؟”
“الإستقرار لم يكن يوما ما حقيقة جيلي.”
“اذا، السعادة هي في التشرد.”
“و الإنتقام. الكثير منه.”
سنذهب، أنا و أنت، شرقا و غربا، نحو الشمال، كي نجعل أبناء المجلس و المحكمة و الحانات الكبيرة و البنوك و الوعود المتخاذلة عبرة لكل من إعتقد أن المادة اهم من الإنسان. سنجعل من ربطات أعناقهم أحبال إنتحار. سنأخد كل ما سرقوه من أحلام و طموح و نوزعه في المخيمات. سنجفف آبارهم الخاصة لكي نعيد زراعة كل شجرة سلبت الحياة من أجل إحياء مجمع تجاري. سنجعل من كتبهم المقدسة المليئة بالأمال الزائفة حطباً لموقد يدفىء المشردين في شباط. رافقني نحو الشمال إذا كنت تبغض الركود.