بعيداً عن النسوية الاختزالية

(الصورة المرفقة من جلسات زيادة الوعي النسوي في أميركا الشمالية في السبعينات)

النسوية أصبحت أكثر شيوعاً وشهرةً اليوم، في منطقتنا وعالمياً، ولا يمكن وصف ذلك بالجيّد أو السيء. جيل الإنترنت يعرف الكلمة جيّداً، والكل لديه مشاعره الخاصة حيالها. مدى تأثير ذلك على الشكل العام للمجتمع صعب تحديده، لكن الأكيد أن الإنترنت سمح للعديد من النساء والشابّات خاصة في منطقتنا العربية والناطقة باللغة العربية التعرّف على مفاهيم النسوية وبعض أفكارها الشائعة، وحملها إلى منازلهن وصديقاتهن وأخواتهن، قطرة قطرة. من جهة أخرى، شيوع النسوية يعني أن أفكارها الشائعة هي الأفكار الأقل جذراً وإقلاقاً للنظام القائم الأبوي والرأسمالي. فالأفكار النسوية السائدة عادة ليبرالية، تسمّى بال pop feminism أحياناً، وتعتمد على التمرّد على أمور أصبحت إلى حدّ ما غير متقبلة إجتماعياً، يمكن وصفها بالشاذّة والنادرة إذا نظرنا لها بطريقة مبسطة، الخارجة عن المألوف، كالعنف ضدّ النساء (الظاهر والصريح والمفصح عنه) وجرائم الشرف (التي لا تندرج عادةً مع العنف ضد النساء لأسباب سياسية بحتة) وتعدد الزوجات والنقاب والاغتصاب وعدم تساوي الأجور وعدم السماح للبنات والنساء بالتعلّم أو العمل. كلّها أمور ساهمت خطابات الجمعيات غير الحكومية والنسوية الإعلامية بتقسيمها وتفكيكها ورؤيتها كأجزاء يمكن العمل عليها بشكل إنفرادي، كما حملّتها صفة الإنفرادية والانعزالية والشخصنة.

تماماً كما يرى الخطاب النيوليبرالي الفقر والتشرّد كأمر فردي وشخصي، يعود إلى صفات وعادات شخصية، كالكسل والغباء والعمل غير الدؤوب، يمكن العمل عليها بانعزال عن مسائلة النظام الاقتصادي القائم، ترى النسوية الليبرالية كل تلك المشاكل من منظار تبسيطي، ذكوري بطبيعة الحال، لكن يمكن معالجته ضمن النظام القائم عبر الإصلاح. لذلك، أغلب اللذين يتعرّفوا على النسوية الليبرالية، أو النسوية البوب، يعترفون بوجود أبوية بشكل عام، لكن يفصلونها عن الأنظمة القائمة، ويردونها إلى الشخصي والثقافي. يسهل على من يجد في النسوية الشائعة إجابات معيّنة، أخذ الخطاب السائد على أنّه الخطاب النسوي الوحيد والأصح، وكل ما يختلف عنه يعد أكثر جذراً، لا مجال لمنقاشته. كما انّه يسهل اعتماد تلك النسوية من الأساس، لأنه يمكن بسهولة الإشارة إلى تلك التصرفات المنفردة والمنعزلة، وإبعاد أنفسنا عنها، وبالتالي التخلص من الشعور بالذنب. لذا تبقى أفكار النسوية الإشتراكية أو الجذرية أو السوداء وغيرها من مدارس الفكر النسوي، مهمشّة ضمن الخطاب السائد، كونها تسائل الأنظمة القائمة وتأخذ النظري والعملي إلى بعد أقل راحة وأكثر قلقاً. ذلك يجعل العديد من أدوات قمع النساء والطبقات العاملة بإعتماد نسوية غير مقلقة، غير جذرية، تستهدف أجيال ترى ببعض الإصلاحات ثورة على الأبوية، ولو كانت عبر إستهلاك المزيد من السلع المسوّقة على أنها أكثر “نسوية”، بغض النظر عن ممارساتها الإستغلالية وإستفاداتها من النظام الرأسمالي الذي يسخّف عملنا ويعتقل حريّتنا عبر ربطها بالإستقلال المادي.

علينا إعتماد نسوية مقلقة، تجعلنا ننظر إلى الأمور بطريقة نقدية، دون الأخذ بمسلمات، لأن الوعي النسوي جزء أساسي من وعينا الثوري بشكل عام، مهمّ لعملية التحرّر المجتمعي والاقتصادي. يسهل لمن يعتمد نسوية مبسطة وغير مسائلة للنظام القائم النفور من أي تحليل لا يأخذ بتلك المسلمات بعين الإعتبار، فالأبوية تسرّبت إلى تفاصيل حياتنا بشكل مخيف، إعتدنا عليه، وإلا ما استمرت الأبوية إلى اليوم، وبالتالي علينا ألا نعتاد عليها أبداً. على النسوية أن تكون منظار تحليلي قبل كل شيء، وإلا لن يكن بقدرنا كنسويات تقديم بدائل ثورية، لأن الأبوية لا تختزل بالتصرفّات التي نحاول عزلها ومعاملتها كأمور يمكن تشخيصها، بالعكس، الأبوية في التفاصيل. لذا، النسوية غير مريحة، مرهقة، لا تعطنا فرصة للتنفس أحياناً، وكلمّا يزيد الوعي النسوي، كلّما يزيد الغضب. لا عودة ولا رجوع عنها. إذا ما غيّر الفكر النسوي نظرتنا للحياة بحذافيرها، ما الفائدة؟

عليه، مناقشة أمور تعتبر فطرية وطبيعية أساسية جدّاً في عملية زيادة الوعي: مثلما العلم “الموضوعي” أخبرنا لقرون أن دور المرأة الطبيعي هو في الخضوع والإغواء والتربية والعمل المنزلي والإرضاء والخدمة، وأن عدم قدرتنا على التعامل مع الأنظمة القائمة والإنتاج ضمنها سيعامل كمرض، وكان من الصعب مناقشة تلك الأمور حتّى مؤخراً، ينزعج البعض من مسائلتنا لأمور أخرى بنفس الشكل، كتأثير الأبوية والعنصرية والطبقية على توجهاتنا وأذواقنا وممارساتنا. والمسائلة هنا لا تعني المنع، فيجب احترام حقّنا بالسيادة على أجسادنا وأخذ قراراتنا بأنفسنا بغض النظر عن تأثرها بأمور سيئة. بالعكس، هي مجرّد محاولة لفهمها ووضعها في سياقها المناسب، ولنسف أفكارنا عن الطبيعة والفطرة والعلم الموضوعي، الذي أقنعنا أنّنا حيوانات مجرّدة من تأثير الثقافة، وبأن تركيبة المجتمع اليوم طبيعية وفطرية كما الإنسان الأول. كأنه لا يوجد قبل مجتمعنا المعاصر ولن يوجد بعده. بينما إذا عدنا مجرّد بعض العقود إلى الوراء، سنجد تغيير هائل بأفكارنا عن الذوق والشريك/ة المناسب والعائلة والحب والجنس والجمال، الخ.. فكيف إذا عدنا قرون إلى الوراء، أو عشرات القرون؟